فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8-9):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي هِيَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [22/ 3] نَازِلَةٌ فِي الْأَتْبَاعِ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الرُّؤَسَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى الضَّلَالِ الْمَتْبُوعِينَ فِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ} [22/ 3] وَقَالَ فِي هَذِهِ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [22/ 9] فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُضِلٌّ لِغَيْرِهِ، مَتْبُوعٌ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِضَمِّ يَاءِ: {يُضِلُّ} وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى جِدَالِ الْكَفَرَةِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [22/ 8]؛ أَيْ: بِدُونِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، حَاصِلٍ لَهُمْ بِمَا يُجَادِلُونَ بِهِ وَلَا هُدًى؛ أَيْ اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ عَقْلِيٍّ، يَهْتَدِي بِهِ الْعَقْلُ لِلصَّوَابِ وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ؛ أَيْ: وَحْيٍ نَيِّرٍ وَاضِحٍ، يَعْلَمُ بِهِ مَا يُجَادِلُ بِهِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا عِلْمٌ مِنْ وَحْيٍ، فَهُوَ جَاهِلٌ مَحْضٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَقَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [22/ 9] حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُجَادِلُ؛ أَيْ: يُخَاصِمُ بِالْبَاطِلِ فِي حَالِ كَوْنِهِ ثَانِيَ عِطْفِهِ؛ أَيْ: لَاوِي عُنُقِهِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ اسْتِكْبَارًا وَإِعْرَاضًا. فَقَوْلُهُ: {ثَانِيَ} اسْمُ فَاعِلِ ثَنَى الشَّيْءَ: إِذَا لَوَاهُ، وَأَصْلُ الْعِطْفِ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ مِنْ لَدُنْ رَأْسِهِ إِلَى وِرْكَيْهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ثَنَى فُلَانٌ عَنْكَ عِطْفَهُ، تَعْنِي أَعْرَضَ عَنْكَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْعُلَمَاءُ هُنَا بِالْعُنُقِ فَقَالُوا: ثَانِيَ عِطْفِهِ: لَاوِي عُنُقِهِ، مَعَ أَنَّ الْعِطْفَ يَشْمَلُ الْعُنُقَ وَغَيْرَهَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ الصُّدُودُ عُنُقُ الْإِنْسَانِ، يَلْوِيهَا وَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَيِّهَا. وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [22/ 9] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ مِمَّا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَنَحْوِ ذَلِكَ- لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَالْبَلَاغِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، فِي مَعْنَى الْحَرْفِ. وَقَدْ وَعَدْنَا بِإِيضَاحِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَنَقُولُ هُنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْجَمِيعِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ عَلَى الْكَافِرِ فِي أَزَلِهِ أَنْ يُجَادِلَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي حَالِ كَوْنِهِ لَاوِيَ عُنُقِهِ إِعْرَاضًا عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتِكْبَارًا. وَقَدْ قَدَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ ضَالًّا مُضِلًّا. وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ أَيْ: لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ. وَكَذَلِكَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} الْآيَةَ [28/ 8]؛ أَيْ: قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْتَقِطُوهُ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارِهِمْ أَوْضَحَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [31/ 7]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [63/ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [4/ 61]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [31/ 18]؛ أَيْ: لَا تُمِلْ وَجْهَكَ عَنْهُمُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [51/ 38- 39] فَقَوْلُهُ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ بِمَعْنَى: ثَنَى عِطْفَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} الْآيَةَ [17/ 83] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [22/ 9]؛ أَيْ: ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ. وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ؛ كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ ثَنَى عِطْفَهُ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضًا عَنْهُ عَامَلَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَذَلِكَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ نَقِيضُ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعَظَمَةِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [40/ 56]، وَقَوْلِهِ فِي إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [7/ 13] وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [22/ 9]؛ أَيْ: نَحْرِقُهُ بِالنَّارِ، وَنُذِيقُهُ أَلَمَ حَرِّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [83/ 4- 6].

.تفسير الآية رقم (10):

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُذِيقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ، يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ؛ أَيْ: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي نُذِيقُكَهُ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ؛ أَيْ: {قَدَّمَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [22/ 10] فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [4/ 30] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [22/ 10] فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى مَا الْمَجْرُورَةِ بِالْبَاءِ.
وَالْمَعْنَى: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي يُذِيقُكَهُ اللَّهُ حَصَلَ لَكَ بِسَبَبَيْنِ، وَهُمَا: مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَالَةُ مَنْ جَازَاكَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْوِفَاقَ، وَعَدَمُ ظُلْمِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ الْمَعْرُوفِ فِي نَفْيِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِظَلَّامٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّا أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ سَابِقًا، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَقْتَضِ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ.
فَلَوْ قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدٌ بِظَلَّامٍ لِلنَّاسِ، فَمَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُبَالِغٍ فِي الظُّلْمِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ مُطْلَقِ الظُّلْمِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَسْنَدَ كُلَّ مَا قَدَّمَ إِلَى يَدَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَكُفْرُهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ ذُنُوبِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْبَطْشِ بِالْيَدِ يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ فِي اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْيَدِ. وَزِنَاهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِيَدِهِ، بَلْ بِفَرْجِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزَاوَلُ بِغَيْرِ الْيَدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا ظَاهِرٌ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ إِسْنَادُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْيَدِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا الْجَارِحَةُ الَّتِي يُزَاوِلُ بِهَا أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ مَعَ أَنَّ الْعَذَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْهُ حَاضِرٌ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: وَضْعُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ مَوْضِعَ إِشَارَةِ الْقُرْبِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} الْآيَةَ [2/ 1- 2]؛ أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ.
وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ** فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكَا

أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ** تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا

يَعْنِي: أَنَا هَذَا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ الْآيَةَ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ وَإِهَانَةٌ لَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [44/ 47- 50]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [52/ 13- 16] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

.تفسير الآية رقم (12):

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}.
ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ} [22/ 12] رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [22/ 11]؛ أَيْ: يَدْعُو ذَلِكَ الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مَا لَا يَضُرُّهُ، إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا، وَلَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [26/ 72- 74].
إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَلَكِنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِهِ تَعَالَى النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} [22/ 12] مَعَ إِثْبَاتِهِمَا فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: {أَقْرَبُ} دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْعًا وَضَرًّا، وَلَكِنَّ الضَّرَّ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ:
مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: الضَّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ، مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهُ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ أَنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [22/ 13]
وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا: لَبِئْسَ الْمَوْلَى، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرِ. اهـ. مِنْهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ الْبَتَّةَ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: إِنَّ ضَرَّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حَيَّانَ عَدَمَ اتِّجَاهِ جَوَابِهِ الْمَذْكُورِ.
وَمِنْهَا: مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى فِي الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَالْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ فِيهَا: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ، هِيَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} [22/ 12] لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا تَأْتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي مَنْ عَبَدَ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفِرْعَوْنَ الْقَائِلِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [28/ 38]، {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [26/ 29]، {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [79/ 24]، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى عَابِدِيهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ لَهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [26/ 41- 42] فَهَذَا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ كَلَا شَيْءٍ، فَضَرُّ هَذَا الْمَعْبُودِ بِخُلُودِ عَابِدِهِ فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زَائِلٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغَاةِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ هِيَ التَّعْبِيرُ بِمَنْ الَّتِي تَأْتِي لِمَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [22/ 13] هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ جَوَابِ أَبِي حَيَّانَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.تفسير الآية رقم (13):

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}:
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [22/ 13] فِيهَا إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ.
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْهَا ثَلَاثَةً:
أحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ مُتَزَحْلِقَةٌ عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَالْأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ الْمَوْصُولَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِ: {يَدْعُو} وَاللَّامُ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ، الَّذِي هُوَ وَخَبَرُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَتَأْكِيدُ الْمُبْتَدَإِ فِي جُمْلَةِ الصِّلَةِ بِاللَّامِ وَغَيْرِهَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: مِنْهَا عِنْدِي لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: عِنْدِي مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُكَ لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يَدْعُو تَأْكِيدٌ لِ: {يَدْعُوَ} فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: {لَمَنْ ضَرُّهُ} فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [22/ 13] صِلَةُ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَالْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ: لَبِئْسَ الْمَوْلَى. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَمَا فَعَلْتَ لَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَمَّا ذَكَّرَ هَذَا الْوَجْهَ: وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي: لَبِئْسَ الْمَوْلَى جَوَابُ اللَّامِ الْأُولَى: قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَحُّ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَقْرَبُ. اهـ.
وَالثَّالِثُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ {يَدْعُو} وَأَنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقَدْ عَزَا هَذَا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ مَعَ نَقْلِهِ عَمَّنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ شَاذٌّ. وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَرَ مِنْهُ نَفْعًا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [22/ 13] تَرْفِيعًا لِلْكَلَامِ: كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [34/ 24] وَبَاقِي الْأَقْوَالِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ تَرَكْنَاهُ، لِعَدَمِ اتِّجَاهِهِ فِي نَظَرِنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} الْمَوْلَى: هُوَ كُلُّ مَا انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ، يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ. وَالْعَشِيرُ: هُوَ الْمُعَاشِرُ، وَهُوَ الصَّاحِبُ وَالْخَلِيلُ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْلَى وَالْعَشِيرِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [22/ 12]؛ أَيْ: الْبَعِيدُ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ قُرْآنٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ الْحَسَدَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: {أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [22/ 15]؛ أَيْ: بِحَبْلٍ إِلَى السَّمَاءِ؛ أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّقْفُ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا عَلَاكَ سَمَاءٌ كَمَا قَالَ:
وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ** وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَالْمَعْنَى: {فَلْيَعْقِدْ رَأْسَ الْحَبْلِ فِي خَشَبَةِ السَّقْفِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [22/ 15]؛ أَيْ: لِيَخْتَنِقْ بِالْحَبْلِ، فَيَشُدُّهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَتَدَلَّى مَعَ الْحَبْلِ الْمُعَلَّقِ فِي السَّقْفِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْقَطْعَ عَلَى الِاخْتِنَاقِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِنَاقَ يَقْطَعُ النَّفَسَ بِسَبَبِ حَبْسِ مَجَارِيهِ، وَلِذَا قِيلَ لِلْبُهْرِ وَهُوَ تَتَابُعُ النَّفَسِ: قَطْعٌ، فَلْيَنْظُرْ إِذَا اخْتَنَقَ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ؛ أَيْ: هَلْ يُذْهِبُ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُهُ مَنْ نَصْرِ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُذْهِبُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ الْحَاسِدُ مَا يَغِيظُهُ وَيُغْضِبُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا؛ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ؛ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ: لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهِبٍ لِمَا يَغِيظُهُ. اهـ مِنْهُ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِحَاسِدِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ رَبَّهُ لَنْ يَنْصُرَهُ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، فَهُوَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِكُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَغَيْرُهُمْ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ تَعَالَى. وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّصْرَ يَأْتِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّمَاءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرْتَقِي بِذَلِكَ السَّبَبِ، حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَقْطَعَ نُزُولَ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَمْنَعَ النَّصْرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَإِنْ غَاظَهُ نَصْرُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ. فَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِ النَّصْرِ؛
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِارْتِقَاءَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَنْعِ نُزُولِ النَّصْرِ مِنْهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَمْدُدْ} [22/ 15]، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لِيَقْطَعْ لِلتَّعْجِيزِ فَلْيَنْظُرْ ذَلِكَ الْحَاسِدُ الْعَاجِزُ عَنْ قَطْعِ النَّصْرِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يُذْهِبُ كَيْدُهُ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ جَهْدِهِ فِي كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ أَعْمَلَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَمْنَعَ عَنْهُ نَصْرَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُذْهِبُ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [38/ 10- 11] وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَلِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَنْ يَنْصُرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} [22/ 15] وَأَنَّ النَّصْرَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّزْقِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: لَنْ يَرْزُقَهُ، فَلْيَخْتَنِقْ، وَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ؛ إِذْ لَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ لَيْسَ فِيهَا رِزْقُ اللَّهِ وَعَوْنُهُ، أَوْ فَلْيَخْتَنِقْ وَلْيَمُتْ غَيْظًا وَغَمًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الرِّزْقَ نَصْرًا، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. يَعْنِي: مَنْ يُعْطِينِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ؛ أَيْ: مَمْطُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي فَقْعَسٍ:
وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَءًا فَوْقَ حَقِّهِ ** وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي الْغَيْثُ نَاصِرُهْ

؛ أَيْ: مُعْطِيهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا تَرَى، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ أَوِ الْكِتَابِ، لَا يُخَالِفُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ نَصْرَ الدِّينِ وَالْكِتَابِ هُوَ نَصْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَنَصْرُ اللَّهُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَائِهِ كَلِمَتَهُ، وَقَهْرِهِ أَعْدَاءَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ، وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [40/ 51] فَإِنْ قِيلَ: قَرَّرْتُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَنْصُرُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَكَيْفَ قَرَّرْتُمْ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ؟
فَالْجَوَابُ هُوَ مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَالْكَلَامُ دَالٌّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} الْآيَةَ [22/ 14]. هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْقِلَابُ عَنِ الدِّينِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [22/ 11] انْقِلَابٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لِيَقْطَعْ قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ فِي لَامِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ تَخْفِيفًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآيات (19-21):

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}.
مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ- أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَمَنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ- جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [22/ 19]؛ أَيْ: قَطَّعَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ ثِيَابًا، وَأَلْبَسَهُمْ إِيَّاهَا تَنْقَدُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [14/ 50] وَالسَّرَابِيلُ: هِيَ الثِّيَابُ الَّتِي هِيَ الْقُمُصُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَكَقَوْلِهِ: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [7/ 41] وَالْغَوَاشِي: جَمْعُ غَاشِيَةٍ، وَهِيَ غِطَاءٌ كَاللِّحَافِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [22/ 19]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [44/ 48- 49] وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْبَالِغُ شِدَّةَ الْحَرَارَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} الْآيَةَ [18/ 29]. وَقَوْلُهُ هُنَا: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [22/ 20]؛ أَيْ: يُذَابُ بِذَلِكَ الْحَمِيمِ إِذَا سُقُوهُ فَوَصَلَ إِلَى بُطُونِهِمْ كُلُّ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [47/ 15] وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَهَرْتُ الشَّيْءَ فَانْصَهَرَ، فَهُوَ صَهِيرٌ؛ أَيْ: أَذَبْتُهُ فَذَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ يَصِفُ تَغْذِيَةَ قَطَاةٍ لِفَرْخِهَا فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ:
تُرْوَى لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ ** تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرُ

؛ أَيْ: تُذِيبُهُ الشَّمْسُ، فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَذُوبُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْجُلُودُ} الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [22/ 20] الَّتِي هِيَ نَائِبُ فَاعِلِ: {يُصْهَرُ} وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْآيَةِ فَذَلِكَ الْحَمِيمُ يُذِيبُ جُلُودَهُمْ، كَمَا يُذِيبُ مَا فِي بُطُونِهِمْ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ.
إِذِ الْمَعْنَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ، وَتُصْهَرُ بِهِ الْجُلُودُ؛ أَيْ: جُلُودُهُمْ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ قَامَتَا مَقَامَ الْإِضَافَةِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَالْجُلُودُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى تُصْهَرُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَتُحْرَقُ بِهِ الْجُلُودُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْعَامِلِ الْمَحْذُوفِ الرَّافِعِ الْبَاقِي مَعْمُولُهُ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْوَاوِ، قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَعَلَا فُرُوعُ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا يَعْنِي: وَبَاضَ نَعَامُهَا؛ لِأَنَّ النَّعَامَةَ لَا تَلِدُ الطِّفْلَ، وَإِنَّمَا تَبِيضُ، بِخِلَافِ الظَّبْيَةِ فَهِيَ تَلِدُ الطِّفْلَ، وَمِثَالُهُ فِي الْمَنْصُوبِ قَوْلُ الْآخَرِ:
إِذَا مَا الْغَانِيَاتِ بَرَزْنَ يَوْمًا ** وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا

تَرَى مِنَّا الْأُيُورَ إِذَا رَأَوْهَا ** قِيامًا رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَا

يَعْنِي زَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ، وَأَكْحَلْنَ الْعُيُونَ.
وَقَوْلُهُ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ** مُتَقَلِّدًا سيفًا وَرُمْحَا

؛ أَيْ: وَحَامِلًا رُمْحًا؛ لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ.
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَرَاهُ كَأَنَّ اللَّهَ يَجْدَعُ أَنْفَهُ ** وَعَيْنَيْهِ إِنْ مَوْلَاهُ ثَابَ لَهُ وَفْرُ

يَعْنِي: وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ.
وَمِنْ شَوَاهِدِهِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ** حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا

يَعْنِي: وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الْآيَةَ [59/ 9]؛ أَيْ: وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ، أَوْ أَلِفُوا الْإِيمَانَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الْمَخْفُوضِ قَوْلُهُمْ: مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً، وَلَا سَوْدَاءَ تَمْرَةً؛ أَيْ: وَلَا كُلُّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَهِيَ انْفَرَدَتْ

بِعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي ** مَعْمُولُهُ دَفْعًا لِوَهْمٍ اتَّقِي

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [22/ 21] الْمَقَامِعُ: جَمَعُ مِقْمَعَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الْمِيمِ الْأَخِيرَةِ، وَيُقَالُ: مِقْمَعٌ بِلَا هَاءٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: حَدِيدَةٌ كَالْمِحْجَنِ يُضْرَبُ بِهَا عَلَى رَأْسِ الْفِيلِ: وَهِيَ فِي الْآيَةِ مَرَازِبُ عَظِيمَةٌ مِنْ حَدِيدٍ تَضْرِبُ بِهَا خَزَنَةُ النَّارِ رُءُوسَ أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمَقَامِعُ: سِيَاطٌ مِنْ نَارٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقَامِعَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْحَدِيدِ لِتَصْرِيحِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الْآيَةَ [22/ 19] نَزَلَ فِي الْمُبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي أَقْرَانِهِمُ الْمُبَارِزِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمْ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا.